أمارجي كلمة سومرية تعني "الحرية"، و هي أقدم كلمة مدونة في التاريخ بهذا المعنى.

الجمعة، 4 مارس 2011

يحدث فقط في بيروت

كمال شاب هندي، يعمل لدى عائلة أقربائي منذ سنوات في الخليج العربي، أمين، حسن الطباع، طيب المعشر.
منذ فترة انتقل أقربائي إلى بيروت، ليعيشوا فيها. و منذ شهر، لحق بهم كمال.
قبل عدة أيام، أراد كمال أن يحلق شعره، فأخذته و نزلنا إلى حلاق قريب من منزل أقربائي الذين أقطن عندهم، كنت قد تعوّدت في الفترة الأخيرة أن أحلق عنده. حيّاني بحرارة كالعادة، و لكن ما أن علم أن كمال هو زبونه الجديد، حتى بدأ يعتذر و يتعذّر بانشغاله طول اليوم.
سألته: هلّا جعلت له موعدا في الغد؟ و هنا أخذني على جنب و أجابني: لا أستطيع، أخشى أن ينزعج زبائني، أرجوك أعذرني و لكني لن أحلق لكمال.
لم أصدّق ما سمعت أذناي، و من هول الصدمة تراجعت بدون أن أنبس ببنت شفه، و نظرت إلى المسكين كمال و قلت: حلّاقي مشغول جدا الآن، سنجد غيره.
و تكرّر الرفض (بجفاصة و عدم احترام لمشاعر كمال) مع أربعة حلّاقين آخرين في المنطقة التي أقطن بها، و كدت أن أتعارك مع آخرهم، إذ لم أتحمّل و صرخت: عيب! إن لم تكن هذه هي العنصرية فماذا تكون؟!
و هنا، كالني بالسباب و الشتائم، عليّ و على الذين خلّفوني، و توعّدني بالويل و الثبور و عظائم الأمور... يا له من وغد!

في الخليج، لم يعان أقربائي هذه المشكلة، فالحلّاقين الهنود متوفرين بكثرة. أمّا هنا في لبنان، فجميعنا حديثوا العهد في البلد. فقرّرت أن أنزل في اليوم التالي إلى منطقة الدورة، مصطحبا معي كمال المسكين، علّنا نعثر على حلّاق "ابن أصل" يقبل أن يمارس مهنته بشرف، و بدون اعتبارات عنصرية.
و على قراري هذا، خرجت من منزلي قاصدا مقهى في "جونية"، كنت قد واعدت بعض الأصحاب أن نلتقي فيه.

و نحن هناك، قصصت على أصحابي حكاية كمال و قصة شعره. و أبدى الجميع استهجانه، و أطلقوا نفس عبارات الشجب و الاستنكار و التنديد و الإدانة التي نسمعها عادة في مقررات قمم جامعة الدول العربية.
و صرخ أحد الروّاد من طاولة قريبة: " بيكونوا هالحلاقين كلهم عونية"، و هنا صرخ آخر: " بل جميعهم من القوّات، و هذه المنطقة معروفة أنها كلها قوّاتجية"، ليصرخ ثالث: " بل هم عونية أشقياء، فهذه هي أخلاق العونيين"....
و كادت، سيداتي و سادتي الأكارم، أن تندلع حرب الإلغاء مرة أخرى، هذه المرة بسببي أنا و كمال. (حرب الإلغاء: آخر الحروب الأهلية اللبنانية، قامت بين المسيحيين الموالين لعون، و المسيحيين الموالين لجعجع ).
و لكن، من حلاوة الروح ربّما - و قبيل لحظات من اتخاذ قرار الهرب لأنجو بجلدي - صرخت بلهجتي الشامية: " يا جماعة الخير، طيب عال، كتير منيح، حدا يعطيني رقم تلفون شي حلاق ابن حلال، خلّونا نعرف نحلق للدرويش".

و كأن الله أراد أن يثبت لي صحة النظرية القائلة: "وحدهم السوريين، قادرين على حلّ مشاكل اللبنانيين، و لكن لمصلحتهم".
فقد هدأت الأمور في المقهى فجأة، تماما كما ثارت فجأة، بل و انهالت عليّ أرقام التلفونات، و تباروا من يدلّني على حلاق أقرب إلى مسكني، و لا يعاني من مرض العنصرية، و أكدوا لي أنهم سيتوصّون بي و بكمال.
و بالفعل، فقد قمت في اليوم التالي بعمل اتصال لحلاق قريب من مسكني، و رحب بي و بكمال و تواعدنا، و حلقت عنده أنا و كمال.

و سبحان من يجعل في شجرة اللوز لوزان... أحدهما حلو، و الآخر مرّ.

حضارة الراعي، حضارة الذكر

كنت، و خلال جزئين قد عرضت رأيي عن بذور نشأة الحضارة الزراعية الأولى و التي وصفتها (و أظنّني قد توفّقت) بأنها حضارة الأنثى.
و تساءلت في نهاية الجزء الثاني: كيف إذن، انقلبت حضارتنا إلى حضارة ذكرية بحتة، تجاهد فيها المرأة بشقّ الأنفس للحصول على أبسط حقوقها؟
و سأحاول هنا أن أعرض رأيي المتواضع في كيفية نشوء حضارة الذكر.

لمّا كانت طبيعة الأنثى قد منحتها الوقت الكافي للتأمّل في مملكة النبات، فإن طبيعة الذكر ذي البنية القوية، قد منحته احتكاكا شبه دائم بمملكة الحيوان، من أجل الصيد كبداية.
و لكن العالم بأمور الصيد، يعرف أنه يحتاج إلى الصبر، و انتظار الفريسة، و مراقبتها و ترقّب أفضل الظروف لاصطيادها، كما أنّه يحتاج للسفر و الترحال الطويلين، للوصول إلى مواطن البروتين الغني لدى الحيوانات. هذا الترحال الطويل، يعني فترات ليلية طويلة من التأمل، في النجوم، و في الحنين للأنثى و التي هي بشكل أو بآخر تعني الوطن الآمن و المستقر في أماكن الخصب الرغيدة.
و لكن الأهم... هو التأمّل في مملكة الحيوان العجيبة. متفكّرا: الضواري يجب الابتعاد عنها، الكلاب و السموريات سيئة الطعم، القوارض قليلة البروتين، و الأهم، تلك البهائم الغنية البروتين، البطيئة، الوديعة، و الغبية إلى أقصى حدود البلاهة.
برأيي، لن يطول الأمر حتى يكتشف الذكر، قدرة الإنسان على ترويض بعض أنواع الحيوانات و تهجينها.
يجمع العلماء الأجلّاء، أن أول حيوان تم ترويضه هو الكلب، و الذي أعان الإنسان في الصيد، و كان عينه الحارسة لذريته و إناثه في ما يمكن أن نسميه "الوطن". و الخطوة التالية ستكون تهجين البهائم.
و هكذا، سيحصل أحد الذكور أو بعضهم (و لكن ليس جميعهم على كل حال) على مصادر البروتين، بل و اللبن أيضا - كجائزة إضافية- و بدون تكبّد عناء و مشقّة الصيد.
و إن كان الصيد يحتاج لعمل جماعي بسبب بدائية وسائل الصيد المتوفرة (كالحراب و السكاكين الحجرية و العظمية)، فإن الرعي لن يحتاج لأكثر من عصا، و لا بأس برفقة كلب يوفّر الوقت للمزيد من التأمل، و هذا حال الرعي إلى يومنا هذا. كما أنّه عمل فردي بالدرجة الأولى. و برأيي المتواضع، هذا الفرد كان الجد الأكبر للشعوب الساميّة. (سآتي على شرح هذه النقطة بشكل مفصل)

إذا كانت الأنثى قد استطاعت من خلال اكتشاف الزراعة، أن تنقل البشرية من مواطنها الأولى في الأدغال المطرية القريبة من خط الاستواء (كما يرى معظم العلماء)، إلى الوديان الخصبة، فإن هذا الراعي الأول (و لنطلق عليه مجازا اسم "قابيل ") قد استطاع أن يتحرر من ضرورة الالتصاق بالوديان الخصبة، ليصبح حرا في جميع السهوب، يسرح بها مع بهائمه المهجنة. مستمتعا بحرّيته و الأهم. مفتخرا بثروته....

نعم أيّها الأحبّة، فالانثى حين اكتشفت الزراعة، لم تتمكن من تعويض البشرية عن حاجتها الماسة للبروتين الحيواني الضروري جدا للنمو، و كان الحل باستمرار الصيد، و لهذا، كانت حضارتها حضارة جماعية شبه مشاعية.
أما قابيل الراعي، فإنه لا يحتاج الجماعة في شيء، فحيواناته المهجنة و المروضة تعوضه - إلا عن شيء واحد و هو المتعة الجنسية - و سهوب المراعي، كريمة أيضا و أحيانا كثيرة بنفس كرم الوديان. و هكذا برأيي نشأت الملكية الخاصة، إذ لا يوجد سبب واحد يدعو قابيل لمشاركة أي جماعة بشرية، في ثروته و قطعانه و ... حضارته.

و ليس هذا كل شيء، فإن صديقنا قابيل الراعي، و من خلال تأمّله بثروته الحيوانية، سيلاحظ حتما، أنها تجامع مثله، و أن إناث البهائم، تماما كإناثه، لا تأتي بالمواليد من طلقاء نفسها، بل تحتاج لماء الذكور، لتحبل و تلد.
و هنا سيكتشف قابيل أن المرأة لا تأتي بمعجزة حقا حين تلد. و هذا ما سيؤدي برأيي إلى رد فعل عكسي، و سيتحول تقديس الأنثى عند قابيل إلى إزدراء بل و احتقار. و لكنه ما يزال ينشد المتعة الجنسية.

سواء حصل قابيل على إناث متعته عن طريق الخطف، ام أنه كان مبتكر عمليات المقايضة و أولى عمليات المتاجرة.... فإن قابيل هذا سيحصل عاجلا أم آجلا، على متعته، و على ذريته الخاصة، المملوكة له و ليس للجماعة كما هو الحال لدى جماعة الحضارة الزراعية.

و مع ذرية قابيل، سينشأ رابط الدم المتين (و سيستمر إلى يومنا هذا و سيزداد قوة على قوة)، و سينسب الأبناء لأول مرة إلى الآباء، و سيبدأ مع رابط الدم هذا بظهور أول الشعوب الساميّة، أكثر ترابطا من الجماعات الزراعية البدائية (بالنسبة لها) برابط الدم، و أكثر تنظيما بوجود الأب الرئيس المالك للثروة و الذرية.
و ستتسارع حضارة الراعي بالتطور، متفوقة على الحضارات الزراعية، حتى يصبح الصدام و الصراع بين الحضارتين أمرا لا بد منه، و يكمل لنا التاريخ، كيف انتصرت الشعوب السامية على الجماعات الزراعية الأكثر بدائية، لتنشأ عندها أولى الممالك, و لتبدأ حضارة الراعي بالإزدهار و الانتشار.

الخميس، 3 مارس 2011

الحضارة الزراعية الأولى، حضارة الأنثى... الجزء الثاني

كنت قد تحدّثت بموضوعي الحضارة الزراعية الأولى، حضارة الأنثى عن رأيي المتواضع بكيفية انتقال البشرية من مرحلة الجمع و الالتقاط إلى مرحلة الزراعة، و ما نتج عن هذا الانتقال من اتساع رقعة موطن البشر نحو الوديان الخصبة على ضفاف الأنهار الكبرى.
و تحدّثت بشكل مختصر عن أهم سمات مرحلة اكتشاف الزراعة، و كيف جاء معها معرفة البشر لطرائق علاجية بالاعتماد على الأعشاب و الفطور و ما تقدّمه مملكة النبات.
و تحدّثت عن دور الأنثى الجليل في تلك المرحلة، حتى أطلقتُ على تلك الحضارة، حضارة الأنثى. و رأيت أن أستفيض قليلا عن بذور نشأة تلك الحضارة.

فالانثى التي أجبرها حملها و ولادتها و نفاسها و إرضاعها و تربيتها للأطفال، على الاستقرار، و أعطاها الوقت للتأمل، استطاعت نتيجة للتأمل في مملكة النبات، أن تكتشف أساليب الزراعة، و أن تكتشف بعض الطرائق العلاجية، بل و استطاعت أيضا أن تكتشف أساليب الغزل و النسيج (لهذا سنجد أن الأنثى حتى يومنا هذا لها القدرة على الغزل و النسج، بل و يعتبر الغزل عملا خاصا بالمرأة حتى في أكثر الحضارات الحالية ذكورية، كما في إيران و أفغانستان)، بل و أستطيع أن أدّعي و كلي اطمئنان بادّعائي، أن الأنثى هي أول من قام بتخمير المشروبات الكحولية.
فبرأيي المتواضع، حتى و لو استطاع الرجل (الصياد ) أن يعصر نتاج الكروم و الشعير و ... الخ، إلا أنّه لن يجد الوقت الكافي للتخمير، ناهيك عن اكتشافه للآلية، بينما سيتاح الوقت للأنثى لتخمير نتاج الكروم و غيرها، و خاصة أنها تملك الدافع لذلك، فهي تنتظر الرجل الصياد للعودة من رحلة الصيد، لذلك ببساطة أرى، أنها احتفظت بالعصائر، و حفظتها من التلف لحين عودة الذكر، فحصل التخمّر... أمّا آلية التخمّر، فإنها ستكتشف من قبلها عن طريق التجربة و الملاحظة، و لا بأس بقليل من الحظ و الصدفة، كحال أي اكتشاف آخر.
و لأنّ الأنثى تقوم بخلق الأطفال عن طريق الولادة، و مع كل ما ذكرته، فإنّه كان لا بدّ أن تتّسم تلك المرحلة بتقديس المرأة
فهي التي تخلق الأطفال، و هي التي تشفي، و هي التي تنسج، و هي التي تأتي بالخمر المسكر، و هي التي تؤمّن القوت من البقول و الأعشاب و الفطور، حين لا يفلح الذكور الصيّادين بصيد البروتين الضروري، ناهيك عن أنّها سبب المتعة الجنسية، بل هي المتعة الجنسية ذاتها. فهل يوجد بعد ذلك ما يدعو لعدم تقديسها؟
و أكثر ما يدعم رأيي هذا، هو اكتشاف تماثيل المرأة المتضخمة الأثداء و الأرداف، في كل مكان انتشرت فيه هذه الحضارة، و التي أجمع الآثاريون أنها انطلقت من شرق المتوسط، و انتشرت في كل أرجاء المعمورة.
هذه التماثيل، وجدت لسبب واحد أوحد، و هو تقديس المرأة الولود.
و لعلّ أهم ما جاءت به تلك الحضارة الزراعية الأنثوية، هو أساطير الخلق الأولى، و لكني سأستفيض في شرح هذه النقطة في مرة قادمة إن شاء الله.

هكذا أيّها الأحبّة، برأيي المتواضع و الحر، استطاعت الأنثى أن تنقل البشرية من مرحلة الجمع و الالتقاط و الصيد، إلى مرحلة الزراعة المشاعية الأولى، و أولى الحضارات الإنسانية. و التي كما سبق و أخبرتكم، كانت حضارة سومر القديمة، أكمل هذه الحضارات التي وصلت إلينا.

و لكن، هل تعتقدون أن الذكر سيقف مكتوف اليدين و هو يرى سطوة الأنثى على الحضارة؟
نظرة بسيطة على واقعنا اليوم، و نظرة ابسط على التاريخ، ستؤكد أن الإجابة هي: لا

و لكن كيف بدأت حضارة الذكر، و كيف حصل الإنقلاب الذكري؟
هذا ما سأحاول أن أجيب عليه في تحشيشة أخرى.... و لحين بلوغ الوقت، لكم مني أطيب التحيات.

أنقذوا لغتنا من الشوفينية العنصرية

وصلني عبر الفيسبوك دعوتان للانضمام إلى قضيتان:
الأولى دعوة للمطالبة بحق المرأة السورية بمنح الجنسية السورية لأبنائها، و هي الدعوة التي قبلتها على الفور بلا تردد و بدون تأجيل.
فالمرأة في سوريا ( و في كل مكان أيضا )، لها ذات عين حقوق الرجل السوري، شاء من شاء و أبى م أبى.
و أتحدّث هنا عن جميع الحقوق بلا استثناء، مهما كان هذا الاستثناء، و مهما كانت هذه المزاعم، و تحت أي ذريعة كانت.
بل و أتمنى صادقا، من كل قلبي و عقلي و وجداني، أن ينقرض دعاة إنقاص حقوق المرأة. و لكي أكون صادقا معكم، فإني أتسامح لأبعد الحدود التي تسمح بها مبادئي، بالوسيلة أو الوسائل التي يتم بها انقراضهم.
و لكن ليس هذا ما أودّ الحديث عنه في تحشيشتي هذه، و ما ذكرت الموضوع سوى من مبدأ أن الشيء بالشيء يذكر.

موضوعي الذي أودّ الحديث عنه، هو الدعوة الثانية:
فالدعوة الثانية كانت دعوة لتغيير  أسماءنا في الفيسبوك إلى العربية.
و هنا سرحت طويلا...
لم أضغط حتى على اللينك (استعملت كلمة لينك قاصدا)، خوفا مني أن أقرأ ما يعكّر مزاجي من نفحات شوفينية و عنصرية لن تخلو منها مثل هذه الدعوات.
أنا أيها الأحبّة، شديد الاعتزاز بلغتي و ثقافتي العربيتان، بل و أفتخر بهما أيّما فخر، و يستهويني أدبها، و أتابع بشغف نتاج مبدعيها في كل العصور.
و لكني أيضا متصالح تماما مع لغتي الإنكليزية (و هما اللغتان الوحيدتان اللتان أتقنهما).
لست متصالحا فقط، بل أنا ممتن لها، ممتنّ لها في تعليمي و دراستي، في تواصلي مع الناس، في عملي، ممتنّ لأدبها الجميل، ممتن لأنها كانت بصدق، بطاقة دخولي عالم الكومبيوتر و الانترنت، و مهما أطلت مقالي هذا، لن أوفيها حقّها.

أيّها القرّاء الأعزّاء، لقد كانت لغتنا العربية يوما ما من أثرى لغات العالم باحتوائها على ما يزيد عن مليونين و نصف المليون مفردة.
و لكن تلك الدعوات لتحنيط لغتنا العزيزة بقالب المقدّس الديني، و النوعية الرديئة من مستخدمي الفصحى في صحافتنا المكتوبة، بالإضافة لعدم الاهتمام في تطوير هذه المفردات، و اصطدام أي محاولة تطوير بدعاة الشوفينية الدينية البغيضة، كل تلك العوامل. أدت إلى هبوط مستوى اللغة العربية، و انحطاطها، شأنها شأن معظم مناحي حياتنا اليومية.
كانت اللغة الانكليزية تحتوي على ما يزيد قليلا عن 600 ألف مفردة، قبيل الحرب العالمية الثانية، و أصبحت اليوم تحوي على ما يزيد عن 6 ملايين مفردة، مما جعلها لغة متفجّرة السرعة و التطور.

لا يخجل الناطقين بالاسبانية (و هي أكثر اللغات انتشارا على الأرض اليوم) من الـ 50000 مفردة ذات الأصول العربية، و لم تتوان اللغات اللاتينية من أخذ مصطلحات اللغة العربية عندما كانت تتصدر لغات العالم، عندما كانت لغة لا بد من دراستها للولوج إلى عوالم العلم و المعرفة. فلماذا علينا أن نخجل من إضافة مفردات جديدة من أصول غير عربية؟
ألم تضم العربية يوما ما مصطلحات فارسية و تركية و سريانية و آرامية و عبرية و يونانية و ... الخ؟

إن كان هناك من يعتقد أن إثراء لغتنا و الاعتزاز بها يتم عن طريق تغيير نوع الحروف التي نستخدمها في الفيسبوك، فإني أؤكد لكم جميعا، إن مثل هذه الدعوات لا تعني بالنسبة لي سوى الشوفينية و العنصرية.
استخدامي للغة الانكليزية لا ينقص من اعتزازي بعربيتي ابدا، و بالتأكيد لا يهين العربية.
إن ما يهين العربية حقا، هو أن يقوم الأجانب بدراسة العربية فقط و فقط لكي يصبحوا قادرين على فهم حوارات الإرهابيين، و لكي يتمكّنوا من الحصول على وظيفة في أحد أجهزتهم الأمنية. هذا ما يهين لغتي العربية، و للأسف هذا هو الواقع.

الأربعاء، 2 مارس 2011

الحضارة الزراعية الأولى، حضارة الأنثى

كنت قد تحدثت في موضوعي السابق: نشوء الحضارة، بين عقدة أوديبا و عامل الخبرة و الإرادة الواعية عن رأيي في كيفية نشوء الحضارة و التابوه او التشريع الأول الذي نظم العلاقات الزوجية بصيغتها البدائية.

يقول ماركس، و يجمع معه كثيرون أن المجتمع الإنساني الحضاري الأول كان مجتمعا مشاعيا، تحكمه علاقات زوجية مشاعية مع نظام تابوه بدائي. و لن أدخل في موضوعي هذا بتفاصيل النمط الزواجي البدائي، و من يريد الإطلاع على المزيد التفاصيل فما عليه إلا أن يراجع كتب مثل "الطوطم و التابوه" لسيغموند فرويد، او كتاب " نشوء العائلة و الملكية الخاصة" لفريدريك إنجلز، فقد استفاضا في شرح النمط الزواجي المشاعي.
هذا المجتمع المشاعي، كان يقوم على اقتصاد بدائي يعتمد على الجمع و الإلتقاط و الصيد.


فلمّا وهبت قوانين الحياة و الطبيعة  الذكر و الأنثى جسدين مختلفين فيزيولوجيا، فقد تحتم على ذلك الاختلاف، اختلافٌ في الأعمال و الاهتمامات. فقوة جسد الذكر، جعلته دون الأنثى قادراً على القيام بأعمال الصيد التي تحتاج لسرعةٍ في الجري و عنفٍ في المواجهة و عزمٍ على مصادر البروتين الضرورية للنمو (الحيوانات).
بينما كان جسد المرأة الولود عامل استقرارٍ أكبر، جعلها تهتم بأعمال جمع البقول و الأعشاب و الفطريات، و التقاط الثمار من مملكة النبات، المستقرة في الأرض مثل الأنثى، و وفّر لها وقتا أطول للتأمل و التعلم من الطبيعة التي حولها. و لا أجد أدلّ على هذا التأمل سوى أن أدعوكم أيها الأحبّة، للمقارنة بين مدى اهتمام الأنثى الغريزي بجسدها، الأمر الذي يتضاءل معه اهتمام الذكر بجسده حتى يكاد يبدو و كأنه إهمال.
و مع هذا التأمل و الملاحظة جاءت الحكمة التي هي نتيجة التأمل الحتمية.
و تجسّدت هذه الحكمة في اكتشاف بعض أساليب العلاج كنتيجة لمحاولة فهم الأنثى المبكر لآلية عمل جسدها من جهة، و نتيجة لعلاقة الأنثى بالأعشاب التي تلتقطها لتتمكن الجماعة من الحصول على قوتها في حال فشل الذكور من اصطياد البروتين الضروري لحياة البشر، من جهة ثانية. كما أنها تجسّدت أيضا في تعلّمها أساليب الزراعة الاولى بعد ملاحظتها لمعجزة الحياة الطبيعية و كيف تنتش البذور الساقطة على الارض لتغدو زرعا يعطي الغذاء و الكساء للبشر، في آلية تشبه إلى حدٍّ كبير، آلية الولادة التي تختص بها دوناً عن الذكور، مما جعلها أقدر من الذكر على فهم و تعلّم آلية الزراعة.
و مع تعلّم الزراعة، استطاعت البشرية أن تبتعد عن موطنها الأساسي في الغابات و الأدغال، لتنطلق البشرية إلى السهوب الواسعة التي على ضفاف الانهار الكبيرة، حيث الخصب و المناخ المعتدل و الحياة الرغيدة.
فقامت الحضارات الأولى على ضفاف الأنهار الكبرى مثل النيل و دجلة و الفرات و سيحون و الغانج... الخ.
و لم تنكر الحضارات البشرية المبكرة ذلك الدور الجليل الذي تقدّمه الأنثى في المجتمع، سواء من حيث العلم و المعرفة و الحكمة، أو من حيث اجتراح معجزة الحياة و الخلق (الولادة)، أو من حيث كونها عامل استقرار أساسي (لحاجتها لهذا الاستقرار بسبب الحمل و الولادة ثم الرضاعة و ممارسة دورها الأمومي... الخ). بل بجّلتها حتى وصلت إلى حدّ التقديس، فكانت آلهتهم أنثوية مثل إينانا و عشتار و عناة و إيزيس و أفروديت و فينوس ... الخ. و أستدلّ على ذلك من خلال التماثيل التي عثر عليها الآثاريون في كل مكان تقريباً، تلك التماثيل التي تجسّد أنثى تضخّمت أعضاءها الجنسية التناسلية كالأرداف و الأثداء. و التي يعود بعضها إلى أكثر من 15 الف سنة.
و أوضح تلك الحضارات التي وصلتنا هي حضارة "سومر" القديمة (تمييزا لها عن حضارة سومر الأحدث). تلك الحضارة التي قامت جنوب العراق عند التقاء نهري دجلة و الفرات.

هذه الحضارة الزراعية المبكرة، أنتجت أوّل و أقدم أساطير الخلق و التكوين، و سنرى لاحقا كيف أنّ هذه الحضارة ستطبع بطابعها كل الحضارات التالية، و هذا ما سنلاحظه في كل أسطورة وصلتنا عن الخلق و التكوين، و منها الأسطورة التوراتية، التي تشرح كيف انتقل جدّا البشر الأولان - آدم و حواء - من جنة أشبه ما تكون بالأدغال و الغابات الاستوائية، إلى بيئة أكثر ضراوة